أوروبا على مفترق طرق- تحديات داخلية وخارجية تهدد مستقبل الاتحاد

في خطوة بارزة هذا الشهر، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعرض اتفاقية "الضمانات الأمنية" المبرمة مع بيلاروسيا، والتي تأتي في إطار دولة الاتحاد، على مجلس الدوما الروسي بهدف إتمام إجراءات المصادقة الحاسمة عليها. من المتوقع أن يتم تفعيل هذه الاتفاقية لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد التلقائي.
وبموجب بنود هذا الاتفاق المحوري، تتفق روسيا وبيلاروسيا على أن أي اعتداء مسلح، باستخدام الأسلحة التقليدية، يستهدف إحداهما يعتبر بمثابة عمل عدواني تجاه دولة الاتحاد بأكملها. هذا البند يتيح لروسيا الحق في استخدام ترسانتها النووية بشكل فوري.
في الظروف الاعتيادية، ربما لم يكن لهذا الاتفاق تأثير كبير على الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في ظل الأوضاع الراهنة، حيث تشهد منطقة شرق أوروبا، وبالتحديد شرق أوكرانيا، حرب استنزاف طاحنة بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا الاتحادية، تزداد المخاوف من تحول هذه الحرب إلى مواجهة مباشرة وربما نووية بين الطرفين.
تواصل الدول الأوروبية تقديم الدعم العسكري واللوجستي المتواصل لكييف في هذا الصراع المحتدم، وذلك انطلاقًا من الاعتقاد بأن الطموحات التوسعية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن تتوقف عند حدود الأقاليم الأوكرانية التي تسعى موسكو لضمها إلى أراضيها. وعلى الرغم من التطمينات الروسية المتكررة بأن أهداف العملية العسكرية الخاصة التي يشنها الجيش الروسي هي أهداف محدودة، وأنها تسعى فقط لضمان أمن روسيا القومي، إلا أن "انعدام الثقة" لا يزال هو العامل المهيمن الذي يدفع دول الاتحاد الأوروبي للوقوف بحزم إلى جانب كييف، على أساس أن "سقوط أوكرانيا يعني سقوط أوروبا بأكملها".
تواجه أوروبا خطرًا حقيقيًا يطل من بوابتها الشرقية، مع تصاعد التهديدات الروسية باستخدام الأسلحة الردعية. يبدو أن موسكو بدأت بالفعل في استشعار التهديد لأمنها القومي، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا من الناحية الاقتصادية، وذلك من خلال "تصفير" إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. جاء ذلك بعد امتناع كييف عن تجديد اتفاقية نقل الغاز الروسي عبر أراضيها، والتي انتهت صلاحيتها في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، دون أن تظهر موسكو أي بادرة جدية من جانب الاتحاد الأوروبي لحث كييف على التراجع عن قرارها، أو لقبول عرض بوتين بنقل الغاز عبر أراضي بولندا.
تحركات "الدب الروسي" قد تشكل تهديدًا حقيقيًا لأمن واستقرار أوروبا. فكيف يمكن نسيان تحركه في عام 2014 باتجاه شبه جزيرة القرم، وعمله على ضمها رغم الاعتراضات الأوروبية الشديدة؟ من يضمن أن لا يعود هذا السيناريو ليتكرر في المستقبل، وأن تطالب روسيا بضم مناطق جديدة بحجة "حماية الأمن القومي الروسي"؟
يبدو جليًا أن استخدام الأسلحة النووية من قبل روسيا ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد كيان الاتحاد الأوروبي. هذه التهديدات ليست وليدة اللحظة، بل أطلقها العديد من المسؤولين الروس منذ بداية الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. بالإضافة إلى ذلك، أجرت روسيا بالفعل العديد من المناورات التي تحاكي حربًا نووية محتملة.
ومع ذلك، فإن الإقدام على حرب نووية لن يكون خيارًا عقلانيًا بالنسبة لروسيا، بل سيكون بمثابة انتحار جماعي، وذلك بسبب انتشار هذه الأسلحة في العديد من الدول الأوروبية، وكذلك بسبب قيام الولايات المتحدة بنشر "مظلتها" النووية في أكثر من دولة أوروبية.
لا جدال في أن أوروبا، القارة التي كانت تمثل حلمًا للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على مدى عقود، تعيش اليوم أزمة صعود اليمين المتطرف. فبعد فرنسا وإيطاليا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى، تشهد ألمانيا الآن صعودًا ملحوظًا لحزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، وهو أول حزب يميني متطرف يفوز بانتخابات إقليمية في ألمانيا منذ الحقبة النازية المظلمة.
وهذا يعتبر انتكاسة كبيرة لحكومة المستشار أولاف شولتس قبل الانتخابات المرتقبة في 23 فبراير/شباط الجاري. والخوف من هذه الموجة لا يقتصر على ألمانيا وحدها، بل إن أوروبا بأكملها تشهد ارتفاعًا في نسبة الكراهية للأجانب، وما يترتب على ذلك من جرائم متنوعة قد تؤدي بالفعل إلى حالة من الفوضى يصعب على أوروبا السيطرة عليها في المستقبل.
هناك تخوف قديم جديد ينتاب الأوروبيين من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو تخوف تجسد عمليًا في قراراته "الشعبوية"، وعلى رأسها رفض فرض الضرائب على المنتجات الأوروبية. وفي هذا السياق، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مسؤول رفيع في المفوضية الأوروبية، تحذير بروكسل لواشنطن من رد فعل صارم في حال فرضها رسومًا جمركية على السلع الأوروبية.
الحرب "الجمركية" قد لا تكون التحدي الوحيد الذي يرفع مستوى التوتر بين أوروبا وأمريكا إلى حافة القطيعة. فمطالبة ترامب برفع مستوى الإنفاق العسكري في ميزانية حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى نسبة 5% تشكل تحديًا إضافيًا كبيرًا، خاصة وأن ترامب وضع هذا الشرط مقابل انسحاب بلاده من حلف الناتو. ويبدو أنه جاد في هذا الطرح، وما انسحاب بلاده الرسمي من العديد من المنظمات ذات الطابع الدولي، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، إلا تأكيد قاطع على مدى جديته في تنفيذ تهديداته.
ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض لولاية ثانية وأخيرة، رفع سقف التحديات وزاد من فرص نشوب التوترات داخل الصف الأوروبي، تارة عبر حديثه عن إنهاء الحرب في أوكرانيا دون أدنى مراعاة لمخاوف حلفائه الأوروبيين، وتارة أخرى بتهديده بضم جزيرة "غرينلاند". هذا الأمر استدعى ردًا حازمًا من الدنمارك عبر رئيسة وزرائها، مته فريدريكسن، التي أكدت بكل وضوح أن غرينلاند "ليست للبيع"، الأمر الذي دفع بلادها إلى تعزيز وجودها العسكري في منطقة القطب الشمالي ردًا على تهديدات واشنطن المتصاعدة.
في ظل هذه الاهتزازات الداخلية والخارجية المتزايدة، يتصاعد منسوب الخوف من تفكك الاتحاد الأوروبي، خاصة من قبل بعض الدول التي تتبنى سياسات مؤيدة لروسيا، بل وتدافع عن قرارات بوتين وهواجسه. وفي هذا السياق، أفادت وسائل إعلام صربية بأن مظاهرات طلابية حاشدة أغلقت في 1 فبراير/ شباط الجسور الثلاثة التي تربط ضفتي نهر الدانوب في العاصمة بلغراد، مطالبة بإسقاط الحكومة، وهو ما اعتبره رئيس صربيا، ألكسندر فوتشيتش، المقرب من بوتين، محاولة غربية لتنظيم "ثورة ملونة" في بلاده.
صربيا، على غرار جورجيا وهنغاريا، هي من بين الدول الأوروبية التي بدأت موجة من التحركات الداعمة لوقف الحرب في أوكرانيا بما يخدم مصالح روسيا، على عكس دول أوروبية أخرى ترفع شعار الاستمرار في الحرب حتى تحقيق النصر على روسيا، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا. هذا الانقسام المتنامي داخل دول الاتحاد الأوروبي هو ما يطمح إليه بوتين لتحقيق الانتصار، وهو أيضًا ما يحتاجه ترامب لتعزيز النفوذ الأميركي من خلال دعم اليمين الأوروبي الصاعد. هذا الأمر يطرح سؤالًا جوهريًا: هل ستنجح أوروبا في النهوض قبل السقوط الوشيك؟